من الأشياء التي لا أفهمها هي كيفية اجتماع الكِبر والعلم في شخص واحد.
"تواضع العلماء" ليس كما تتصوره. هو ليس تبسطًا منهم تجاه الآخرين، وإنما هو حالة خشوع إجبارية يدخل فيها كُل من يرى أبعد من غيره.
تتذكر ما قُلته من قبل بشأن أنك ترى بقدر ما تعلم؟
في المُعتاد، لا يبدو العالم للبشر أكثر من بركة مياه صغيرة. هم لا يرون أبعد من تلك السنتيمترات القليلة التي يلهون فيها، لذا تراهم يتفاخرون ويتقاتلون ويتخاصمون على اعتبار أن هذه البركة هي الوجود بكليته.
ولكن هُناك من البشر من يُلاحظ تلك البوابة القابعة في قاع البركة. يدفعهم الفضول لفتحها لرؤية ما خلفها، فإذا بهم يسقطون في محيط.
يبدو أن البركة لم تكن كُل شيء.
أو رُبما هي في الحقيقة لا شيء على الإطلاق.
يتلفتون، فلا تبلغ أبصارهم النهاية في أي من الاتجاهات. هُم بالكاد يستوعبون أي شيء مما يجري حولهم. مُجرد استحضار المشهد بينما يصفونه لسكان البركة كاف لجعلهم يتلعثمون في الحديث. مقدار الرهبة التي تسكنهم لحظة النزول الأول كاف لجعل أصواتهم ونظراتهم مُنخفضة ما بقي لهم من العمر.
ثُم هُناك من سكان المحيط من يقضون حياتهم في التجول فيه بحثًا عن القاع، وبعضهم يصل. لكن بدلًا من رؤية قاع، إذا بهم يصطدمون ببوابة.
الأمر جنوني. أليس المحيط هو كُل ما هُناك؟ بالكاد استطاعوا استكشاف أي شيء فيه طوال حياتهم، ثُم في النهاية يصلون لبداية أخرى؟
يتجرأ بعضهم على فتح البوابة، فإذا بهم يسقُطون في فراغ لانهائي.
الشعور بالهول يمنعهم حتى من إيجاد الكلمات المُناسبة لوصف أي شيء. لحظة الاتصال الأول بهذا العُمق هي اللحظة التي يختبرون فيها للمرة الأولى الحدود القُصوى لما يعنيه كون الفرد إنسانًا. شعور مُتناهي بالضآلة حد الاختفاء يُصاحبه دهشة، شعور غامر بالجمال المُجرد يُصاحبه رهبة، ثُم هالة من القُدسية تحُيط بالمشهد كُله. فكرة العودة لحياة البركة أو حتى المحيط تُصبح مُستحيلة بعد تلك اللحظة. رُبما سيتوقفون عن التحدث مع الناس بعد ذلك لأنه لا سبيل لإيصال ما يُريدون قوله. رُبما حتى قد يفقدون عقولهم.
أن تعلم أكثر يعني أن تعلم أنك لا تعلم، يعني أن ترى علامات الاستفهام تتزايد من حولك باضطراد.. أي مكان للتكبر هنا؟
رُبما فقط في حال كونك أعمى؛ لأنه بغض النظر عن العُمق الذي ستصل إليه، لن ترى أي شيء في جميع الأحوال.
0 تعليقات
( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ )
Emoji