المُجتمعات البشرية الحالية ليست ظاهرة طبيعية -كالظواهر التي ندرسها في الفيزياء مثلًا- وإنما هي كيانات بشرية الصُنع. هذا يعني أنه عند دراسة مُجتمع ما، فما نطمح إليه ليس "استكشاف" طريقة عمله، وإنما "تصميم" كيفية عمله، وتحديد أفضل الطُرق لتشغيله وإدارته. بعبارة أخرى، المجتمعات البشرية الحالية هي في حقيقتها كيانات هندسية، وهو ما يقترح بالضرورة وجوب تطبيق مبادئ الهندسة عند دراستها وتحليلها، وهو ما لم يحدث.
لننظر لمُشكلة مثل أنظمة الحُكم على سبيل المثال. لدينا السؤال التالي: لماذا لا نرى الكفاءة "النظرية" لنظام الحُكم الديموقراطي مُتحققة على أرض الواقع في أي دولة؟ (نعم، قصدت التعيمم هُنا).
مُجرد طرح هذا السؤال كاف لإشعال ألف جدال بدون الوصول لأي إجابة. من وجهة نظر هندسية، فهُناك إجابة مُحددة تمامًا لهذا السؤال:
1- بدائية النموذج الديموقراطي مُقارنة بتعقيد ما يُحاول نمذجته (نظام الحُكم وطبقات السلطة في مُجتمع بشري ما).
2- الافتراض الرئيسي الذي تعتمد عليه صحة النموذج الديموقراطي، والافتراض الذي يُعطي موثوقية للنتائج التي تترتب عن تطبيقه، هو أن الأفراد لديهم ما يكفي من الوعي والذاتية للاختيار بموضوعية. هذا الافتراض غير مُتحقق على أرض الواقع.
عندما تُواجهنا مُشكلة مُشابهة عند العمل على نظام هندسي ما، وعلى افتراض أن لدينا مقاييس عامة للأداء، فنحن نقوم بفعل أحد شيئين:
1- تغيير النموذج الحالي والبحث عن نموذج بديل. في حالتنا، هذا يُترجم إلى البحث عن نظام حُكم بديل.
2- الإبقاء على النموذج الحالي، ولكن بشرط خلق الظروف التي "تضمن" صحة الافتراضات التي بُني عليها، طالما ظل أداءه مقبولُا وفقًا للمقاييس التي لدينا. في حالتنا، هذا الحل يُترجم إلى خلق الظروف التي "تضمن" أن لدى الأفراد ما يكفي من الوعي والذاتية لجعل النموذج الديموقراطي يعمل بصُورة صحيحة. هذا الحل يستتبع بالضرورة أن نبدأ أولًا بتحديد عن أي "وعي" نتحدث (الهندسة لا تعترف بالكلمات المبهمة)، ثُم في تطوير مقياس مُحدد لهذا الوعي (بدون مقياس من المُستحيل أن نعرف إلى أين نتجه)، ثُم تسخير كل الأدوات المُتاحة لدينا للوصول بالوعي لدى الأفراد للدرجة المُستهدفة. تفصيل الأفكار حول هذه النُقطة بحاجة لمقال مُنفصل.
بالطبع، من يُديرون المُجتمعات البشرية في الوقت الحالي لا علاقة لهم من قريب أو بعيد بهذا الأسلوب في التفكير. النتيجة الحتمية لذلك هي الإبقاء على نموذج معطوب، مع التحدث ليل نهار عن اليوتوبيا "النظرية" التي سيخلقها، وغض الطرف عن الديستوبيا التي خلقها بالفعل. في الحقيقة، هذا الأمر يصب بشكل مُباشر في مصلحتهم، وذلك لأن النموذج الحالي لا يُعد أكثر من كونه لُعبة بين أصحاب السُلطة الفعليين، يلعب فيها الأفراد دور البيدق، بينما يلعبون هُم دور الملك.
0 تعليقات
( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ )
Emoji